سورة الحج - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{الملك} أي السُّلطانُ القاهرُ والاستيلاء التَّامُّ والتَّصرُّفُ على الإطلاقِ {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وحدَه بلا شريكٍ أصلاً بحيث لا يكونُ فيه لأحدٍ تصرُّفٌ من التَّصرُّفاتِ في أمرٍ من الأمورِ لا حقيقةً ولا مجازاً ولا صورةً ولا معنى كما في الدُّنيا فإنَّ للبعضِ فيها تصرُّفاً صُورياً في الجملة وليس التَّنوينُ نائباً عمَّا تدلُّ عليه الغايةُ من زوالِ مريتهم كما قيل ولا عمَّا يستلزمه ذلك من إيمانهم كما قيل لما أنَّ القيدَ المعتبر مع اليَّومِ حيث وُسِّط بين طرفَيْ الجملة يجب أنْ يكون مداراً لحكمها أعني كون الملكِ لله عزَّ وجلَّ وما يتفرَّعُ عليه من الإثابة والتَّعذيبِ ولا ريبَ في أنَّ إيمانَهم أو زوالَ مريتهم ليس ممَّا له تعلُّقٌ بما ذُكر فضلاً عن المداريةِ له فلا سبيل إلى اعتبارِ شيءٍ منهما مع اليَّومِ قطعاً وإنَّما الذي يدورُ عليه ما ذُكر إتيانُ السَّاعةِ التي هي مُنتهى تصرُّفاتِ الخلق ومبدأُ ظهور أحكام المَلك الحقِّ جلَّ جلالُه فإذن هو نائبٌ عن نفس الجملة الواقعة غايةً لمريتهم فالمعنى: الملكُ يوم إذْ تأتيهم السَّاعةُ أو عذابُها لله تعالى. وقولُه تعالى: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} جملةٌ مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال نشأَ من الأخبار بكونِ الملكِ يومئذٍ لله كأنَّه قيل: فماذا يُصنع بهم حينئذٍ؟ فقيل: يحكم بين فريقِ المؤمنينَ به والمُمارينَ فيه بالمجازاةِ. وقوله تعالى: {فالذين ءامَنُواْ} الخ، تفسير للحُكم المذكور وتفصيلٌ له أي فالذين آمنُوا بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه {وَعَمِلُواْ الصالحات} امتثالاً بما أُمروا في تضاعيفِه {فِي جنات النعيم} أي مستقرُّون فيها.
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} أي أصرُّوا على ذلك واستمرُّوا {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتِّصافِه بما في حيِّز الصِّلةِ من الكفر والتَّكذيبِ وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببعد منزلتهم في الشَّرِّ والفساد أي أولئك الموصُوفون بما ذُكر من الكفر والتَّكذيبِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابَ} جملةٌ اسميَّةٌ من مبتدأ وخبرٍ مقدَّمٍ عليه وقعت خبر لأولئك أو لهم خبرٌ لأولئك وعذابٌ مرتفعٌ على الفاعلية بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور لاعتمادِه على المبتدأ وأولئك مع خبرِه على الوجهينِ خبرٌ للموصولِ وتصديرُه بالفاء للدِّلالةِ على أنَّ تعذيب الكفَّارِ بسبب أعمالِهم السَّيئةِ كما أنَّ تجريدَ خبرِ الموصول الأوَّلِ عنها للإيذانِ بأنَّ إثابة المؤمنينَ بطريق التَّفضُّلِ لا لإيجاب الأعمال الصَّالحةِ إيَّاها. وقولُه تعالى: {مُّهِينٌ} صفة لعذابٌ مؤكِّدة لما أفاده التَّنوينُ من الفخامةِ وفيه من المبالغةِ من وجوهٍ شتَّى ما لا يخفى.


{والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله} أي في الجهادِ حسبما يلوحُ به قوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ} أي في تضاعيف المُهاجرة. ومحلُّ الموصول الرَّفعُ على الابتداء وقوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله} جواب لقسم محذوفٍ والجملةُ خبرُه ومن منع وقوعَ الجملةِ القسميَّةِ وجوابِها خبراً للمبتدأ يُضمر قولاً هو الخبرُ والجملةُ محكمية. وقوله تعالى: {رِزْقًا حَسَنًا} إمَّا مفعول ثانٍ على أنَّه من باب الرَّعي والذَّبحِ أي مَرزوقاً حسناً أو مصدرٌ مؤكِّد والمراد به ما لا ينقطعُ أبداً من نعيمِ الجنَّةِ وإنَّما سوى بينهما في الوعدِ لاستوائهما في القصد. وأصلُ العمل على أن مراتبَ الحُسنِ متفاوتةٌ فيجوزُ تفاوتُ حال المرزوقينَ حسب تفاوت الأرزاقِ الحسنةِ. ورُوي أنَّ بعضَ أصحابِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ قالوا: يا نبيَّ الله هؤلاءِ الذين قُتلوا في سبيلِ الله قد علمنا ما أعطاهُم الله تعالى من الخيرِ ونحنُ نجاهد معك كما جاهدُوا فما لنا إنْ مُتنا معك فنزلتْ. وقيل: نزلتْ في طوائفَ خرجُوا من مكَّةَ إلى المدينةِ للهجرةِ فتبعهم المشركونَ فقاتلُوهم {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين} فإنَّه يرزق بغير حسابٍ مع أنَّ ما يرزقه لا يقدِرُ عليه أحدٌ غيرُه والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله وقوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} بدلٌ من قوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله} أو استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونه. ومُدخلاً إمَّا اسمُ مكانٍ أُريد به الجنَّة فهو مفعول ثانٍ للإدخال أو مصدرٌ ميميٌّ أُكِّد به فعلُه. قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: إنَّما قيل يَرضونه لما أنَّهم فيها يَرون ما لا عينٌ رأتْ لا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشرٍ فيرضونه {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بأحوالِهم وأحوالِ معاديهم {حَلِيمٌ} لا يُعاجلهم بالعقوبة.
{ذلك} خبرُ مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والجملةُ لتقرير ما قبله والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعده كلامٌ مستأنفٌ {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي لم يَزد في الاقتصاصِ وإنَّما سُمِّي الابتداءُ بالعقابِ الذي هو جزاءُ الجنايةِ للمشاكلةِ أو لكونِه سبباً له {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} بالمعاودة إلى العُقوبة {لَيَنصُرَنَّهُ الله} على مَن بغى عليه لا محالة {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغٌ في العفوِ والغُفرانِ فيعفُو عن المنتصرِ ويغفرُ له ما صدرَ عنه من ترجيحِ الانتقامِ على العفوِ والصبرِ المندوبِ إليهما بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ} أي ما ذُكر من الصَّبرِ والمغفرةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأمور} فإنَّ فيه حثًّا بليغاً على العفوِ والمغفرةِ فإنَّه تعالى مع كمالِ قُدرتِه لمَّا كانَ يعفُو ويغفُر فغيرُه أَوْلى بذلك وتنبيهاً على أنَّه تعالى قادرٌ على العقوبةِ إذ لا يُوصف بالعفوِ إلاَّ القادرُ على ضدِّهِ.


{ذلك} إشارةٌ إلى النَّصر وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبته. ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل} أي بسببِ أنَّه تعالى من شأنِه وسُنَّتِه تغليبُ بعض مخلوقاته على بعضٍ والمداولةُ بين الأشياءِ المتضادَّةِ وعبَّر عن ذلك بإدخالِ أحدِ المَلَوين في الآخرِ بأنْ يزيد فيه ما يُنقص عن الآخرِ أو بتحصيلِ أحدِهما في مكانِ الآخرِلكونِه أظهرَ الموادِّ وأوضحَها {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} بكلِّ المسموعاتِ التي من جُملتها قول المعاقِبِ {بَصِيرٌ} بجميع المُبصراتِ ومن جُملتها أفعاله.
{ذلك} أي الاتِّصافُ بما ذُكر من كمالِ القُدرةِ والعلمِ وما فيه من معنى البُعد لما مَرَّ آنِفاً وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} الواجبُ لذاته الثَّابتُ في نفسِه وصفاتِه وأفعالِه وحدَهُ فإنَّ وجوبَ وجودِه ووحدتِه يقتضيانِ كونَه مبدأً لكُلِّ ما يُوجدُ من الموجوداتِ عالِماً بكلِّ المعلوماتِ أو الثَّابتُ إلهية فلا يصلحُ إلاَّ مَن كان عالماً قادراً {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلها. وقرئ على البناءِ للمفعولِ على أنَّ الواوَ لما فاته عبارة عن الآلهةِ. وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ المُشركين {هُوَ الباطل} أي المعدومُ في حدِّ ذاتِه أو الباطلُ ألوهيَّتُه {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على جميعِ الأشياءِ {الكبير} عن أنْ يكون له شريكٌ لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} استفهامٌ تقريريٌّ كما يفصح عنه الرَّفعُ في قوله تعالى: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالعطف على أنزلَ، وإيثار صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بتجدُّدِ أثرِ الإنزالِ واستمرارِه أو لاستحضارِ صورةِ الاخضرارِ {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصل لطفُه أو علمُه ألى كلِّ ما جلَّ ودقَّ {خَبِيرٌ} بما يليقُ من التَّدابيرِ الحسنةِ ظاهراً وباطناً.
{لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} خَلْقاً ومُلْكاً وتصَرُّفاً {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنى} عن كلِّ شيءٍ {الحميد} المستوجبُ للحمدِ بصفاته وأفعاله.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأرض} أي جعلَ ما فيها من الأشياءِ مذلَّلةً لكم معدَّةً لمنافعكم تتصرَّفون فيها كيفَ شئتُم فلا أصلبَ من الحجرِ ولا أشدَّ من الحديدِ ولا أهيبَ من النَّارِ وهي مسخَّرةٌ لكم. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بالمقدَّمِ لتعجيل المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ {والفلك} عطفٌ على مَا، أو على اسمِ أنَّ. وقرئ بالرَّفعِ على الابتداء {تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ} حالٌ من الفلك على الأوَّلِ وخبرٌ على الأخيرينِ {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي من أن تقعَ أو كراهةَ أن تقع بأنْ خلقَها على هيئةٍ متداعيةٍ إلى الاستمساك {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي بمشيئته وذلك يومُ القيامةِ وفيه ردٌّ لاستمساكها بذاتها فإنَّها مساويةٌ في الجسميَّةِ لسائر الأجسامِ القابلةِ للميلِ الهابط فتقبله كقبولِ غيرِها {إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث هيَّأ لهم أسبابَ معاشِهم وفتحَ عليهم أبوابَ المنافعِ وأوضح لهم مناهجَ الاستدلالِ بالآيات التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10